مع توجه السعودية لإطلاق أول بورصة سلع.. كل ما يجب أن تعرفه عنها
تُعدُّ السلع الأساسية مثل النفط والمعادن والحبوب من الركائز الحيوية للاقتصاد العالمي، نظراً لدورها المحوري في الصناعة والطاقة والغذاء. وتؤثر تقلبات أسعارها بشكل مباشر على التضخم وسلاسل الإمداد وأسواق المال، ما يجعل تنظيم تداولها ضمن بورصات مخصصة ضرورة لضمان تسعير عادل وشفاف قائم على العرض والطلب، وإتاحة أدوات للتحوط من المخاطر في بيئة تتسم بالتقلبات.
في هذا الإطار، تعمل السعودية على إنشاء بورصة وطنية للسلع الأساسية في الرياض، بهدف تمكين المنتجين المحليين من تسويق سلعهم بأسعار عادلة، وتقليل الاعتماد على التسعير العالمي. ويُطوّر المشروع بشراكة بين وزارة الصناعة والثروة المعدنية والقطاع المالي، حيث يجري إعداد البنية التنظيمية والتقنية اللازمة، وفق ما أعلنه نائب وزير الصناعة خالد المديفر خلال مؤتمر التعدين بالقاهرة.
ويرجح نور الدين محمد، رئيس مجلس إدارة مجموعة تارجت للاستثمار، أن تبدأ البورصة بتداول سلع متوفرة محلياً مثل النفط، والذهب، والسكر، والأرز، في ظل التوسع الاستثماري في قطاع التعدين والقطاعات الإنتاجية. ويرى أن هذه الخطوة تمثل أداة استراتيجية لضبط الأسعار محلياً وتوفير مرجعية تسعيرية تعزز كفاءة السوق وتخدم أهداف التنمية الاقتصادية في السعودية.
يأخذنا هذا التقرير في جولة للتعرف على بورصات السلع، من تعريفها وأنواع السلع المتداولة فيها، إلى أبرز البورصات العالمية والإقليمية، كما يسلط الضوء على مقومات نجاح البورصات السلعية، مستعرضاً نماذج دولية وتجارب إقليمية.
1) ما هي بورصات السلع؟
هي أسواق منظمة تُتداول فيها المواد الأساسية مثل النفط، الذهب، القمح، والمعادن الصناعية، من خلال عقود فورية أو آجلة ومشتقات مالية. توفر هذه البورصات منصة موحدة يلتقي فيها المشترون والبائعون لتحديد الأسعار بناءً على العرض والطلب، ما يضمن شفافية السوق ويُقلّص من تدخل الوسطاء والتقلبات العشوائية. وتُعد هذه الأسواق أدوات حيوية في تسعير السلع عالمياً، إذ تتيح آلية اكتشاف سعرية تستند إلى البيانات الفعلية والتوقعات المستقبلية.
تكمن أهمية بورصات السلع في دورها كمراكز مرجعية لإدارة المخاطر، إذ تتيح للمزارعين، والشركات الصناعية، والمستثمرين التحوّط من تقلبات الأسعار عبر تثبيت أسعار البيع أو الشراء مسبقاً. كما تسهم في تعزيز كفاءة السوق من خلال توحيد المواصفات الفنية للسلع، وتوفير البنية التحتية اللازمة للتخزين والتسليم. ولهذا تُعد هذه البورصات من الركائز الأساسية في سلاسل الإمداد العالمية.
2) ما الذي يميز بورصات السلع عن باقي البورصات؟
بورصات السلع تختص بتداول سلع مادية مثل النفط والذهب والقمح عبر عقود آجلة أو مشتقات مالية، بخلاف بورصات الأسهم التي يتم فيها تداول حصص ملكية الشركات. وتتيح هذه الأسواق للمنتجين والمستهلكين، مثل شركات الطيران والتعدين والمزارعين، التحوّط ضد تقلبات الأسعار عبر تثبيت تكلفة الشراء أو البيع مقدماً، بينما تُستخدم بورصات الأسهم أساساً لجمع رأس المال أو الاستثمار في نمو الشركات على المدى الطويل.
تتأثر أسعار السلع في هذه البورصات بعوامل متعددة، منها الأحوال الجوية، وحجم المخزونات، وقرارات “أوبك”، والتوترات الجيوسياسية، ومواسم الإنتاج، وهي عناصر تؤدي إلى تقلبات أكبر مقارنةً بأسواق الأسهم المرتبطة بنتائج الشركات والاقتصاد الكلي. كما تعتمد بورصات السلع على تحديد مواصفات دقيقة ومعايير موحدة لكل سلعة لضمان شفافية التسعير عالمياً، على عكس أسواق الأسهم التي تختلف طبيعة كل شركة فيها عن الأخرى.
3) ما أبرز السلع التي تتداول في هذه البورصات؟
يتداول في بورصات السلع طيف واسع من المنتجات، وتنقسم إلى أربع فئات رئيسية هي منتجات الطاقة التي تشمل النفط الخام بأنواعه مثل خام برنت وخام غرب تكساس الوسيط، إضافة إلى الغاز الطبيعي وزيت التدفئة. أما المعادن، فتضم الذهب والفضة والنحاس والألمنيوم. وتشمل المنتجات الزراعية القمح والذرة وفول الصويا والبن والسكر. بينما تندرج في فئة السلع اللينة مواد مثل القطن والكاكاو وعصير البرتقال المجمد. وتُعد هذه السلع ركائز أساسية لعقود التداول الآجلة والمشتقات المالية في أكبر البورصات العالمية.
وفي المنطقة العربية، تضم الإمارات بورصات متخصصة لتداول سلع مثل اللؤلؤ والألماس والذهب والشاي.
4) ما أهم بورصات السلع العالمية وحجم التداول فيها؟
تأتي بورصة شيكاغو للسلع (CME) بين أقدم وأكبر أسواق السلع في العالم، تأسست عام 1848 وكانت تعرف بـ”هيئة تجارة شيكاغو”. تختص بتداول العقود الآجلة والخيارات للطاقة، السلع الزراعية، المعادن والعملات الأجنبية. بعد اندماجها عام 2006 مع بورصة نيويورك للسلع، عززت موقعها العالمي، وتنفذ معظم تداولاتها إلكترونياً عبر نظام “GLOBEX” الذي يغطي 150 منطقة. في 2024، سجلت “CME” متوسط تداول يومي دولي قياسي بلغ 7.8 مليون عقد بزيادة 14% عن العام السابق، بحسب ما أعلنته البورصة في يناير الماضي.
وتعد بورصة لندن للمعادن (LME) هي المرجع العالمي لتسعير المعادن الصناعية غير الحديدية مثل النحاس، والألومنيوم، والنيكل، والزنك، وتقدم عقودًا آجلة وخيارات تُستخدم كمعيار أساسي لتحوط الشركات الصناعية وتحديد الأسعار عالمياً. تأسست عام 1877، وتتميز بغرفتها التداولية التقليدية “The Ring” التي استبدلت تدريجياً بمنصة إلكترونية حديثة تعرف بـ”إل إم إي سيليكت” (LMEselect) لتعزيز الكفاءة والشفافية.
وسجلت في عام 2024 متوسط حجم تداول يومي بلغ 702639 عقداً، بارتفاع نسبته 18.4% مقارنة بـ2023 حين بلغ المتوسط 593,537 عقداً، وفقاً للبيانات الرسمية المنشورة على موقع البورصة الإلكتروني.
كما تحتل بورصة يوركس الألمانية (Eurex) موقعاً مهماً بين كبريات أسواق المشتقات المالية في أوروبا والعالم، وتغطي عملياتها نحو 700 موقع دولي، وفي سبتمبر من 2024، أعلنت عن نمو إجمالي حجم التداول بنسبة 11% ليصل إلى 196 مليون عقد، بارتفاع من 176.6 مليون عقد خلال الشهر نفسه من 2023، بحسب موقعها الإلكتروني. أما بورصة نيويورك التجارية (NYMEX)، التي تأسست عام 1872، فتُعد من أكبر أسواق العقود الآجلة عالمياً، مركّزة على تداول النفط والمنتجات النفطية والمعادن الثمينة كالذهب والفضة.
إقرأ أيضاً: “سيتي غروب”: سعر الفضة سيقفز مع فتور صعود الذهب
وفي آسيا، تبرز بورصة طوكيو للسلع (TOCOM) كإحدى أكبر بورصات السلع الآجلة، وتشمل عقود المعادن الثمينة والمطاط الخام والنفط والمنتجات الزراعية، وكذلك عقود مستقبلية لتداول الكهرباء. وفي الصين، تمثل بورصة داليان للسلع (DCE) سوقاً رئيسية للعقود الآجلة للسلع الزراعية والفحم والحديد، مسجلة عام 2020 تداول 1.33 مليار عقد بقيمة قاربت 68.9 تريليون يوان، بحسب تقرير لصندوق النقد العربي. في الهند، تعد بورصة السلع المتعددة (MCX) أكبر سوق للعقود الآجلة للسلع الأساسية، بحصة سوقية تجاوزت 96% من قيمة التداول.
أما في إفريقيا، تأسست بورصة السلع الإثيوبية (ECX) عام 2008 لتكون منصة منظمة لتداول القهوة والذرة والسمسم.
5) ماذا عن بورصات السلع العربية؟
في المنطقة العربية، تُعد الإمارات من أوائل الدول التي أطلقت بورصة لتداول السلع، حيث أسست مركز دبي للسلع المتعددة (DMCC) عام 2002 كسوق منظمة داخل المنطقة الحرة في دبي. ويضم هذا المركز بورصة دبي للؤلؤ التي تهتم بتجارة اللؤلؤ الطبيعي، وبورصة دبي للألماس التي تجمع شركات عديدة تعمل في تجارة الألماس والأحجار الكريمة، إضافة إلى بورصة دبي للذهب والسلع التي تأسست عام 2005 لتداول عقود الذهب والطاقة والعملات، وفي ديسمبر 2024، بلغت العقود المتداولة فيها 152,717 عقداً بقيمة إجمالية بلغت 3.51 مليار دولار أميركي.
كما تضم الإمارات أيضاً منصة لتداول وتخزين الشاي.
أما في مصر، فتعد بورصة الإسكندرية للقطن من أقدم البورصات السلعية عالمياً حيث بدأت التداول في 1885، بينما أُطلقت البورصة المصرية للسلع عام 2020 لتنظيم سوق السلع وحماية صغار المنتجين.
6) تجربة بورصة السلع المصرية.. كيف بدأت وإلى أين آلت؟
في بداية 2024، امتلكت البورصة السلعية المصرية فرصة كبيرة لتأسيس سوق منظم لتداول 13 سلعة أساسية، لكنّ التجربة لم تحقق الآمال، حيث انتهى العام بتداول سلعة واحدة فقط هي النخالة (الردة). كانت البورصة قد دشّنت أعمالها في نوفمبر 2022، وتمكنت خلال عامها الأول من تداول 9 سلع أبرزها القمح والذرة والسكر، قبل أن تتوقف هذه التداولات تدريجياً.
أرجعت الحكومة ومصادر مطلعة هذا التراجع إلى عدة أسباب، منها المضاربات الكبيرة على الأسعار وتداخل دور الحكومة مع القطاع الخاص، خاصة في سلعة القمح التي كانت تستوردها الدولة لتلبية الاحتياجات التموينية فقط، ما أثار تساؤلات عن جدوى طرحها على المنصة وبيعها للقطاع الخاص. وتوقفت آخر جلسات تداول القمح في يناير 2024، والذرة في ديسمبر 2023، بينما اقتصرت التداولات لاحقاً على النخالة وبعض عمليات بيع لمصادرات المعادن الثمينة.
إقرأ المزيد: لماذا تدخل بورصة السلع المصرية العام الجديد بتداول سلعة يتيمة؟
في محاولة لإنعاش البورصة، أعلنت وزارة التموين ومجلس الإدارة عن خطط جديدة لطرح سلع أخرى غير استراتيجية مثل البصل والمشتقات البترولية والذهب التجاري، مع تشجيع القطاع الخاص على دخول المنظومة. وبلغ إجمالي ما تم تداوله منذ إطلاق البورصة حتى نهاية 2024 نحو 1.2 مليون طن قمح و183 ألف طن سكر و266 ألف طن ذرة و65 ألف طن نخالة.
رغم الإخفاق النسبي، أكد المسؤولون استمرار البورصة في العمل وتطلعها لتوسيع العضوية وزيادة معدلات التنفيذ، بينما رأى التجار أنها ساعدت على استقرار الأسعار وتقليل العشوائية، قبل أن تتراجع التداولات وتعود المضاربات للأسواق التقليدية.
7) ما هي مقومات نجاح بورصات السلع؟
ركزت كل بورصة ناجحة على حزمة من المقومات، فمثلاً، استفادت بورصة شيكاغو للسلع من ضخامة السوق الأميركية وسيولتها، و”داليان” نجحت في تلبية الحاجة للتحوط من تقلب الأسعار في الصين، وبورصة السلع الأثيوبية ركزت على الشفافية لخدمة صغار المزارعين، فيما برزت بورصة لندن ببنيتها اللوجستية العالمية.
تتطلب بورصات السلع مجموعة من المقومات الاقتصادية لضمان نجاحها واستدامتها، من أبرزها وجود سوق كبيرة ذات عرض وطلب كافيين على سلع موحدة قابلة للتخزين، إضافة إلى تقلبات سعرية تدفع المنتجين والمستهلكين إلى استخدام العقود للتحوط من المخاطر. كما يشكل وجود سوق فوري نشط وموثوق مرجعاً أساسياً لتكوين أسعار عادلة، فيما يسهم تنوع المشاركين بين منتجين ومستهلكين ومضاربين في توفير السيولة وتعزيز كفاءة التسعير، وفق تقرير المجلة الأفريقية المتخصصة في اقتصاديات الزراعة وإدارة الموارد (AFJARE).
الصين تخطط لإصلاح شامل في أسواق السلع لجذب المستثمرين العالميين.. التفاصيل من هنا
أما على المستوى التنظيمي، فتمثل الشفافية والرقابة القوية ركيزتين لا غنى عنهما. فنجاح البورصة يرتبط بوضوح القواعد، وسهولة الوصول إلى المعلومات السعرية، ووجود جهة رقابية مستقلة تضمن الالتزام ومنع التلاعب والاحتكار. وتلعب غرفة المقاصة دوراً محورياً في إدارة المخاطر وضمان تنفيذ العقود، فيما يُعدّ الاستقرار القانوني والسياسي عاملاً حاسماً في بناء الثقة وجذب المتعاملين، بحسب دراسة صادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد).
في الجانب التقني، تعتمد البورصات الناجحة على بنية تحتية حديثة تشمل أنظمة تداول إلكتروني سريع وآمن، وشبكات تخزين مرخصة، وآليات موحدة لفحص وتصنيف السلع. وتتيح هذه العناصر تنفيذ الصفقات بكفاءة وضمان جودة السلع المتداولة، وتساعد على ربط الأسواق المحلية بالمشاركين الإقليميين والدوليين. كذلك، يسهم توفر المعلومات السوقية في الوقت الحقيقي في تقليل الفجوات المعلوماتية، خاصة في المناطق الريفية، ويعزز شفافية السوق.
8) ما الذي يجب أن تتبناه أو تتجنبه بورصة السلع السعودية لكي تنجح؟
كشف خالد المديفر، نائب وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي لشؤون التعدين في مقابلة مع “الشرق”، على هامش مؤتمر التعدين المنعقد بالقاهرة، أن إنشاء هذه البورصة سيتم من خلال التعاون بين وزارة الصناعة والثروة المعدنية والقطاع المالي في المملكة، والذي يقوم بدراسة تفاصيل السوق، وإعداد التجهيزات اللازمة لإطلاقها.
بناء على المعلومات السابق ذكرها في هذا التقرير، فإن فرص نجاح بورصة السلع السعودية تتوقف على بناء سوق منظمة تقوم على الشفافية والسيولة والتنوع، مع البدء بعقود على سلع تمتاز بمقومات التداول مثل توحيد الجودة، والقابلية للتخزين، وتوفر إنتاج محلي أو إقليمي كافٍ، مثل القمح والتمور والأرز والمعادن الصناعية. والتجربة الإثيوبية أثبتت أن استهداف سلع ذات تداول واسع وطلب إقليمي فعلي يخلق سوقاً نشطة بسرعة. ويمكن للمملكة الاستفادة من موقعها كمركز تجاري يربط آسيا بأفريقيا، لتطوير عقود قابلة للتصدير كمرجع سعري للأسواق الخليجية والعربية.
إقرأ أيضاً: سباق دولي للشراكة مع السعودية في قطاع التعدين
كما أن البنية التنظيمية والتقنية لا تقل أهمية. فوجود إطار قانوني واضح، وغرفة مقاصة فعالة، ومنصة تداول إلكترونية شفافة، يمثّل شرطاً ضرورياً لضمان الثقة وتقليل مخاطر التلاعب. كما أن الاستثمار في شبكة مستودعات مرخصة وآليات تصنيف موحدة للسلع يسهل عمليات التسليم، ويربط البورصة بالاقتصاد الحقيقي. كل ذلك يجب أن يُصمم بما ينسجم مع معايير السوق الحرة ويشجع مشاركة القطاع الخاص.
في المقابل، من الضروري تجنب تسعير السلع من قبل الحكومة أو فرض سقوف سعرية اصطناعية، إذ يتعارض ذلك مع مبدأ اكتشاف الأسعار الحر، ويقلل من جاذبية البورصة كمصدر سعري موثوق. كما أن غياب الشفافية أو المعلومات اللحظية يُفقد البورصة مصداقيتها، حسبما أظهرت بعض التجارب الأفريقية.
فالنجاح هنا لا يكمن في الإطلاق الرسمي، بل في تصميم سوق فعلية تخدم المنتجين، وتوفر للمستثمرين أداة عادلة لإدارة المخاطر والتسعير بفاعلية.