ليلة القدر حين يُحجب النور عن قلوب متشاحنة

في لحظة من لحظات الدهر، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل بين يديه سرًّا من أسرار السماء، موعد ليلةٍ هي خيرٌ من ألف شهر، ليلةٍ تُرفع فيها الأقدار وتُكتب فيها المصائر. لكنه ما إن خرج ليخبر أصحابه حتى وجد رجلين يتشاحنان، فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت». لم تُرفع الليلة لأن الله أراد حجبها، بل لأن الخصام بين القلوب حجَبها. لحظة من لحظات الرفعة ضاعت… هكذا علّمنا النبي أن الخلاف ليس حدثًا عابرًا، بل حاجزٌ روحي يحول بيننا وبين نور السماء، بيننا وبين أقدارنا. أي سرٍّ أعظم من هذا؟ أن يرتبط الغيب بوحدة القلوب، وأن يُمنع الخير حين تتخاصم الأرواح وتتفتت الجماعة. إنها ليست مجرد واقعة تاريخية، بل قانون من قوانين العمران الروحي: لا تمكين بلا وحدة، ولا بركة مع الضغينة. تأملوا جيدًا… كم من حضارةٍ بدأت حين انتصرت على نفسها؟ العرب حين توحدوا على التوحيد خرجوا من الصحراء وبنوا أعظم إمبراطورية. جنكيز خان وحد قبائل متناثرة فاجتاحت نصف العالم. صلاح الدين، قطز، آل عثمان… كلهم نهضوا حين اجتمع الناس على كلمة، وتوحدوا على هدف، وذابت “الأنا” في نهر الجماعة. وفي المقابل، كم من حضارةٍ سقطت وهي في أوج مجدها، لأن القلوب اختلفت، فانهارت الصفوف؟ الأندلس كانت على أعتاب نصرٍ حاسم في معركة بويته، لكنها سقطت لأن أمراءها انشغلوا بصراعاتهم. ونحن اليوم، صورة أخرى من ذلك الشتات، نعيش كسوفًا حضاريًا صامتًا، يملأ حياتنا صراخٌ بلا مضمون، ونزاعٌ على لا شيء… نتقاتل على شاشات صغيرة، ونرسم الخدود بالجدل، ونترك أسباب العزّة تتبخر من بين أصابعنا. والأمر في اليمن لا يختلف كثيرًا… شرعية ممزقة، متعددة الألسن، متنازعة الطموحات، متضاربة السرديات والولاءات. قتل بعضُنا بعضًا، وحِكنا المؤامرات ضد وطننا، وسخّرنا الإعلام وأقلام الصحفيين لا لإعلاء كلمة الحق، بل لبثّ الفتنة، وتشويه رفاق الدرب، كأننا نكتب بأيدينا قدرًا رديئًا، نعيش تبعاته كل يوم، ولا نكاد نفيق. نسينا أن المصير لا يُصنع في غرف السياسة فقط، بل في طهارة النية، وصدق الكلمة، ونُبل الهدف، وصفاء الصفّ. وفي سوريا، وليبيا، والسودان… تتكرر المأساة بأوجه مختلفة، دعاة الفتنة والتمزق، دعاة الشيطان… يجتهدون، بوعي أو دون وعي، في كتابة قدر الذل والانقسام على جبين أمةٍ كانت مأمورة بالاعتصام. يتدثرون بشعاراتٍ براقة، ولافتاتٍ رنانة: “حرية، تغيير، إنقاذ، عدالة”، لكنهم يسيرون في درب التدمير، يهدمون البيت من الداخل، ويُلقون بالحطام في وجوه المساكين. أمة تمزقها الشعارات حين تُرفع على أعمدة الكراهية… وتُنسى فيها القيم حين تُداس باسم المصلحة. وليس التاريخ إلا مرآةً صافية تعكس لنا سنن الله في الأمم: أن الخلاف مقدّمة السقوط، وأن أعظم الحضارات لا تنهار من قوة أعدائها، بل من وهن وحدتها، وتمزق صفها. سقطت الأندلس بعدما كانت زهرة العالم، حين تمزقت إلى دويلات طوائف، حتى جاءت معركة العقاب (1212م)، فهُزمت من الداخل قبل أن تُهزم من الخارج. وسقطت روما، لا حين حاصرها البرابرة، بل حين تنازع أباطرتها، وسُحقت جيوشها في معركة أدرنة. وفي إسبانيا الحديثة، تحولت الحرب الأهلية إلى محرقة، مزقت البلاد، ومهّدت لحكمٍ فردي طويل. وفي يوغوسلافيا، انفجرت الكراهية القومية، وسالت الدماء باسم الاستقلال، فتمزقت الدولة إلى سبع جمهوريات، واندثرت تحت أنقاض الفتنة. وانهارت الدولة العباسية بعد حرب الأخوين في الري، وتمهد الطريق لسقوط بغداد على يد المغول، لأن الوحدة كانت قد دفنت. وفي الصين، بعد قوبلاي خان، سقطت سلالة يوان بفعل النزاع الداخلي، لا غلبة الخارج. وفي الهند، قُسمت الأرض والدم بعد الاستقلال، لأن التفاهم كان مستحيلاً بين متخاصمين. أما الاتحاد السوفيتي، فتفكك من الداخل، من شروخ القومية والسياسة والاقتصاد، لا من قنبلة أمريكية. وفي أفريقيا، انطفأت مملكة الكونغو يوم تقاتلت قبائلها، وسقطت في معركة مبويلا أمام مستعمرٍ ما كان له أن ينتصر لولا تشرذم الداخل. تغيرت الجغرافيا، واختلفت الشعارات، لكن العلّة واحدة: الخلاف يهدم ما لا تهدمه الجيوش، والشقاق يكتب قدر السقوط قبل أن تُرفع السيوف. ليلة القدر… أين هي اليوم؟ وأين قلوبنا منها؟ نرفع الأكف قرب الكعبة، موحدي اللباس… لكن ممزقي القلوب. نتلو الدعاء والسكوت عن الظلم يسكن حناجرنا، ودماء إخواننا تسيل في فلسطين وسواها، ونحن نغرق في التبرير والخذلان. أي دعاء ننتظر استجابته ونحن نهمل أسبابه؟ إن استجابة السماء تبدأ من الأرض… من قلوبٍ تتطهر، وأمةٍ تنهض من رقادها، وتستعيد بوصلة قدرها. لقد حولنا العبادات إلى ملاذٍ فردي، نهرب به من مسؤوليتنا الجماعية. صرنا نطلب الغنى الفردي، والصلاح الفردي، والنجاة الفردية… وكأن الجنة تسعنا فرادى، بينما تُهمل أمة كاملة. ونسينا أن “خيرًا من ألف شهر” ليس وعدًا لمن صلى فقط، بل لمن سعى، ووحّد، وأصلح، وأحب، وضحّى. إنها ليلة قدرنا الجماعي… لحظة عروج لا للروح فقط، بل للأمة. عبور نحو التمكين لا تصنعه الأدعية وحدها، بل تصنعه قلوب متحدة، وسواعد مخلصة، وألسن تنطق بالحق، وضمائر لا تسكت عن الظلم. اللهم إنك عفو كريم، تحب العفو فاعفُ عنا اعف عن فرقتنا، عن نفاقنا الصامت، عن القلوب التي أغلقتها الضغائن، عن الأرواح التي هجرت دربك واكتفت بمظاهر العبادة. وامحُ من طريقنا ما يحول دون العروج إلى قدرنا العالي، العادل، الممتد… واجعل هذه الليلة لنا لا علينا، واكتب فيها ميلاد أمةٍ تعود إليك بقلب واحد، وهم واحد، ومصير واحد. شارك الخبر

Exit mobile version