مشاهدة النسخة كاملة : الشخصنة و المنتدى


rss
11-29-2013, 10:42 AM
الشخصنة و المنتدى
المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، وما إليها، ممتعة ومفيدة. وهي آفاقٌ تمتد على هامش واقعنا الحقيقي. وللدِّقة، أظن أن الافتراضي والحقيقي يتقاسمان واقعنا، بنسبٍ ودرجات تتفاوت بين شخصٍ وآخر. لكن يظل أحدهما في حكم الهامش للآخر. عادةً، يفيض الحقيقي على الافتراضي، فيكون كالصدى لصوته. بمعنى أننا نأخذ واقعنا الحقيقي ونذهب نحو الافتراضي، نحاول هناك فهمَه ومعالجة مشكلاته، أو نتسلّى في إطاره. وعندما يتحوّل الافتراضي إلى إشكالٍ واقعي، ويفيض الافتراضي على الحقيقي، فهاهُنا مشكلة يجب التوقّف عندها.

لنا، بشيءٍ من التجوّز، أن نشبّه الافتراضي بالمَرْفق الخَدَمي (حديقة، مستشفى، سوق، .. إلخ)، الذي لا تأتيه إلا زائرا أو قاضي حاجة. وجودك فيه محدود. وكل ما فيه من شخوص، فهو عابر. وكل ما يحدث فيه من مواقف، فيُفترض أنه مؤّقتٌ بذلك العابر.

يحدث أن تروغ سيارتك عن مسارها وتروّع صاحب السيارة المجاورة، فيعلّق منبه سيارته خلفك غاضبا، وربما تجاوزك مسرعا وأخرج يده من النافذة، وأومأ إيماءةً قذرة. إلا أنك تتابع طريقك، وربما تجاوزته في السير، بلا أدنى التفاتة. لكنك ربما تقيم الدنيا على مديرك في العمل، لو أومأ بمثلها نحوك، في اجتماعكم الشهري. ذلك أن سكوتك عن وقاحة صاحب السيارة، لن يكون له تبعات إغضائك عن وقاحة المدير، الذي تعرف أنه سيفتح لنفسه ولغيره أبواب الجراءة عليك، لو سكت ومرّرتها له. الحقيقة أن اختلاف ردّة فعلك، يعود في الأساس، إلى وعيك بأنك في الشارع عابر، بينما في العمل مقيم. والقضايا في المجال العابر، لا تأخذ نفس حجمها وأبعادها في المجال القار. هذا هو المنطقي.

هل الواقع الافتراضي كالشارع، أم أنه كالعمل التي تقضي فيه سحابة يومك، لسنين لا تدري كم هي؟ وماذا لو كان كالبيت، أي كحياتك الشخصيّة؟

أترك الشِقَّ الأول من التساؤل للقرّاء، يتأمّلوه بهدوء، وآخذ الشق الثاني، مفترضا أن الجواب هو: نعم.. بمعنى أن الواقع الافتراضي صار كحياتك الشخصيّة، فكيف ستكون الحال؟ الذي أظنه سيحدث هو اختلاط الهامشي بالرئيسي، وتلاشي الفارق بين العابر والقارِّ، بكل ما يعنيه هذا من اختلال وسوء تقدير، ووضعٍ للأمور في غير مواضعها، وتنزيل للأشخاص في غير منازلهم. ما يعني الكثير والكثير من الأفعال وردّات الأفعال التي لا يمكن أن تتلاءم مع سياقها. ولهذا تبدو –للعاقل المتزن طبعا- غير منطقيّة ولا مفهومة.

أنْ تفتح موضوعا للحديث مع من يجلس بجانبك وأنتما تنتظران في عيادة طبيب الأسنان، فهذا مسلك طبيعي ومعتاد. لكن أن تفوّتا، أنت وإيّاه، دوركما في الدخول على الطبيب حتى تنهيا نقاشكما ذلك الموضوع، الذي احتمى فجأة. فهذا حمق. لماذا؟ لأنكما تعاملتما مع وقت الانتظار كما لو أنه ليس وقتا فارغا، لم يكن ذلك الموضوع إلا مجرد وسيلةٍ لملئه بما يسلّي ويفيد. وكان هذا هو إطار التعارف ومجاله وغاياته. أي أنكما، بشكلٍ عام، قد وضعتما الهامشي في موضع الرئيسي. وعن ذلك نشأ هذا الموقف المضحك. فهكذا بالضبط من يرفع الافتراضي بقضايا وشخوصه، لدرجة الحقيقي بقضاياه وشخوصه. لكن ماذا لو استعر الجدل حتى أمسك كل واحدٍ منكما بخناق الآخر؟ هنا قد بلغت الوسيلة درجةً تفوّقت بها ما يُفترض أنها الغاية، ووصلت مرتبةً صارت بها تستحوذ على اهتمامنا وتستهلك أعصابنا، بدلا من كونها راحةً من الاهتمامات المنهِكة، وعونا عليها. بل ودخل معطى إثبات الذات في سياقٍ لم يكن للذوات فيه أهميّة تُذكر. إذ الجميع بالنسبة للجميع عابرون، أي في حكم الافتراضيّين المُبْهمين. ومثل هؤلاء يُفترض أن لا تعطي تقييماتهم، لشخصك، كبيرَ أهميّة.

الهدف ليست تكريس عدم الاكتراث والتبلّد واللّا مبالة، بقدر ما هي دعوة لوضع الأمور في نصابها الصحيح. وأعتقد أن من شأن تفهّم تلك الدعوة أن تساعد على محاصرة بعض مظاهر الفظاظة والتوتّر والحزازات والشخصنة الغير مفهومة. والتي أعتقد أنها تفسد المكان على مرتاديه. افهموا، تتّسع صدوركم!

Adsense Management by Losha